السنة الماضية، في مثل هذه الأيام، خسرنا سماح إدريس. سنعرّف عنه هنا بالكاتب اللبناني للأطفال واليافعين، على الرغم من أنّ دوره هذا كان غالبًا ما يذكر في أسفل قائمة أدواره العديدة كمثقف ومناضل، من رئيس تحرير مجلة الآداب وناشر وناقد ومعجمي وأحد مؤسسي حركة مقاطعة داعمي إسرائيل. إن دل هذا على شيء فهو يدلّ على حجم مسؤولية المثقفين الملتزمين العرب وتعدد مجالات عملهم. بالنسبة إلى إدريس، كان الإنتاج الأدبي للأطفال واليافعين من أهم الوظائف الثقافية التي كان يقوم فيها.

ينتمي إدريس إلى جيل الكتّاب اللبنانيين للأطفال الذي برز في فترة ما بعد الحرب، وخاصة بعد العام 2000. نشر أوائل قصصه في 2004، منها أشهر كتبه، قصة الكوسى،القصة الأولى في سلسلة حكايات ولد من بيروت، بطلها أسامة. انتقل إدريس للكتابة إلى اليافعين بشكل سريع نسبيًّا إذ نشر روايته الأولى الملجأ، التي تدور أحداثها خلال الحرب الأهلية اللبنانية، في العام2005. في المجمل، تضمنت أعماله عشر قصص مصورة، وأربع روايات لليافعين، وقصة للمرحلة العمرية ما بين اليافعين والصغار (حين قرر أبي). عند وفاته، كان يقوم بكتابة روايته الخامسة لليافعين والتي لم يسمح له الوقت بإنهائها.
في رسم المسار التاريخي لأدب الأطفال اللبناني، يعتبر صدور قصة الكوسى نقطة تطور محورية في الألفية الثانية، ذلك بحسب الباحثتين هالة برزي (2011) وماتليد شافر (2021). مثلت القصة نوعًا جديدًا من أدب الأطفال اللبناني، أدب مختلف بشكل كبير عن النصوص التي كانت، ولا تزال في كثير من الأحيان، تقدَّم في كتب القراءة وفي المدارس، بلغتها الصعبة والمفذلكة أحيانًا، بشخصياتها الطفولية المثالية في تصرفاتها والملائكية في شكلها، وبميلها إلى الوعظ الأخلاقي الفج وببعدها عن الواقع اليومي للأطفال اللبنانيين.

عبّر إدريس عن نبذه لهذا النوع من الأدب في كتاباته عن مسيرته كمؤلف للأطفال واليافعين (إدريس 2012) ومن خلال كتابه قصتي، حيث تقوم البطلتان بتعداد كل ما يزعجهما في القصص العربية وينفّرهما من اللغة العربية نفسها. في المقابل، كان إدريس من بين الأوائل في الابتعاد عن الشخصيات المثالية الباهتة، إذ إنّ الأطفال في قصصه واثقة من نفسها، تعبر عن نفسها ووجهة نظرها بأريحية، تميل للاختبار وقد تكون شقية في كثير من الأحيان. اختلفت أيضًا العلاقة بين الصغار والكبار التي قدمها في كتبه فباتت علاقة حوارية قائمة على النقاش والأخذ والعطاء، من دون أي تقويض لسلطة الوالدين في المقابل. في تمرير رسائله للأطفال (وأحيانًا الكبار)، اعتمد الأساليب اللعوبة والفكاهية وغير المباشرة. أما على مستوى اللغة، فالتفضيل كان للغة العربية السلسة بدلًا من التركيز على إثراء معجم القراء اللغوي عن طريق تضمين النصوص مفردات غير مألوفة.
في كتابته للأطفال، أعطى إدريس الأولوية للمتعة واللذة كهدف لأدب الأطفال وذلك عن طريق استخدام الفكاهة وإعطائها حيّزًا كبيرًا في قصصه. من ناحية أخرى، كان إدريس أيضًا ملتزمًا بنقل الواقع بأمانة، خاصة فيما يتعلق بكيفية تصرف الكثير من الصغار (والبالغين أيضًا) وفي تطرقه إلى بعض المواضيع التي قد تعتبر حساسة، كما سنرى لاحقًا. مع ذلك، أبرز ما يميز أعمال إدريس (وأكثر ما أثار الجدل حول أدبه) هو تقديمه للغة “لا تنفر بما يتحدث به الناس” (من مقابلة أجريتها مع سماح إدريس في 30 آذار، 2017)، فتضمنت كلمات وتعابير وصياغات مستوحاة من اللغة المحكية اللبنانية. أضفت اللغة الكثير من الحيوية على أعماله كما كانت مصدرًا للفكاهة والواقعية. في هذه المقالة، سأتطرق إلى كل من هذه الجوانب من أدب سماح إدريس، أي الفكاهة والواقعية واللغة، لكنها، كما سيتضح، شديدة الاشتباك ببعضها وجميعها في خدمة القيم الإنسانية والتقدمية والديموقراطية التي يروج لها إدريس.
الفكاهة

الدراما في قصص إدريس، خاصة تلك التي تناسب صغار السنّ، هي دراما المواقف اليومية والتي تنبع منها الفكاهة أيضًا، مثل محاولات الأهل حث أطفالهم على تناول الأطعمة الصحية (الموزة وقصة الكوسى)، أو البحث عن لعبة مفقودة (طابتي الذكية) أو محاولة التخلص من فأر دخل البيت (عالم يسع الجميع) أو الدخول إلى البيت بعد أن علقت الأسرة خارجه (الشباك).
يستخدم إدريس في هذه الأعمال الحوار كواسطة أساسية للفكاهة. يحتل الحوار مساحة واسعة في نصوصه. في قصصه للأطفال الأصغر سنًّا، أغلب هذه الحوارات هي بين الشخصيات الطفولية والكبار، خاصة الأهل. بينما في رواياته لليافعين، هناك الكثير من الحوارات الداخلية والأحاديث بين الأقران. في الحالتين، تقوم الفكاهة على واقعية هذه الحوارات ولعلها تجعل القارئ يضحك لعدم اعتياده على هذا الأسلوب في التعبير في كتب الأطفال العربية.

تتطبع هذه الحوارات بشقاوة شخصيات إدريس. فأسامة في سلسلة قصص “ولد من بيروت”، يغضب ويعترض و”يلوفك” ويحاول ابتزاز أهله والتهرب من العقاب عن طريق الكذب وإيجاد الأعذار لتصرفاته، أعذار وأكاذيب لا تمر على أهله أو على القارئ. في الكل مشغول، القصة الأخيرة في هذه السلسلة، يستخدم أسامة شتى الطرق لإقناع والديه بأن يأخذاه إلى مدينة الملاهي لكنهما مشغولان. يعاتب والدته قائلًا لها، “لا تهتمي بي. اذهبي أنت ودرّسي الأولاد الذين تحبينهم أكثر مني” (ص. 8). بينما يقول لوالده، “عد إلى عملك يا دكتور. المليون دولار أهم [من إضاعة وقتك معي].” (ص.18). هذه الجرأة في التوجه إلى الأهل، والواقعية في المجتمع اللبناني، غريبة عن أدب الأطفال العربي واللبناني ضمنًا، إذ هناك دائمًا خوف من تكريسها أو تعليمها للأطفال عبر عرضها في قصص، وهذا ما لم يخشه إدريس، بل على العكس، بفضل موقعه كناشر، استطاع أن يسمح لنفسه بالحرية المطلقة بنقل صورة الطفولة كما هي، من دون تلميع.

في العادة، الكبار، بحكم خبرتهم الأغنى، هم من يتدخلون في شؤون الصغار في محاولة لتصويب مسارهم. تنعكس الآية في حين قرر أبي، حيث يعتزم الوالد التوقف عن التدخين ومن ثم خسارة الكيلوات الزائدة التي اكتسبها نتيجة ذلك. تكمن الفكاهة في هذه القصة في قلب الأدوار بين الوالد والأبناء. الوالد هو الذي يحاول أن يحسن سلوكه، فيخفق ويحاول التستر على فشله بينما يلعب ولداه وأمهما دور الحسيب والرقيب. تسود هنا بين الأهل والأولاد العلاقة الحوارية نفسها التي نجدها في جميع أعمال إدريس، حيث نراهم يعاتبون ويحاسبون الأب بل ويسخرون منه أحيانًا.
أما في روايته لليافعين، خلف الأبواب المقفلة،الفكاهة هي نتيجة المواقف التي تجد الشخصيات الشبابية نفسها فيها. هناك عدة رواة في الرواية، كل منهم مغرم بأحد لكنّه غير متأكد من مشاعر المحبوب، والذي يتبين أنه مغرم بشخص ثالث. تتعقد وتتقاطع و”تتشربك” هذه المشاعر بينما تستخدم الشخصيات الفايسبوك لتمرير رسائل مبطنة إلى الحبيب (الرواية منشورة في سنة 2014 عندما كان فايسبوك لا يزال هو وسيلة التواصل الاجتماعي السائدة). مع هذا، يقدم إدريس معالجة رقيقة وغير متعالية للحب في مرحلة الشباب.

على الرغم من كثرة المواقف المضحكة في أعمال إدريس، كثيرًا ما ترافقت الفكاهة مع الرقة والجدية في التعامل مع بعض المواضيع. ففي الرواية هذه نفسها، هناك حوار جميل وعميق بين إحدى الشخصيات وصديقتها حول ماهية الحب الحقيقي وكيف يختلف عن الافتتان. في الكل مشغول، مثلًا، يحاول أسامة أن يذهب إلى مدينة الملاهي بمفرده، لكنه يخاف في كل مرة يحاول مغادرة عمارتهم، فيطرق باب بيته وعندما يفتح والده له الباب ينكر أنه هو من طرق على الباب ليحفظ ماء الوجه. في المرة الثالثة، يخاف كثيرًا ويقع على الدرج ويؤذي نفسه وعندما يفتح الأب الباب أخيرًا هناك لحظة رقيقة حيث يستقبله والده ويمسح دموعه. عندما يهدأ أسامه يسأله والده، “أتستحق مدينة الملاهي كل هذا، يا أسامه؟”. يجيبه أسامة “وهل سألت نفسك أنت يا بابا: أيستحق عملك كل بكائي وعذابي؟”. خلال القصة، كنا كقراء نضحك على حساب أسامة، لكن القصة تنجح بتصوير العجز والإحباط الذين هما، في بعض الأحيان، جزءٌ أساسيّ من تجربة الطفولة، حتى في أكثر الأسر محبة وديموقراطيةً. وفي طرحه هذا السؤال، يسائل أسامة والده بشكل جدي حول الثمن الذي دفعه بسبب إعطاء الكبار الأولوية لرغباتهم على حساب رغباته هو. في روايته فلافل النازحين، التي تدور حول عدوان إسرائيل على لبنان في تموز 2006، يتعاطى إدريس بكل احترام وجدية مع هذا الحدث والمآسي الإنسانية التي نتجت عنه. في هذه الرواية، هناك أيضًا حرب على المستوى الشخصي في الخلافات بين الأب والأم حيث يبدوان على وشك الانفصال في أي لحظة. يعالج إدريس مشاعر القلق والارتباك للأبناء نتيجة هذه الخلافات بشكل حساس.
الجرأة
كان إدريس يتعرض للكثير من النقد كردة فعل على خياراته في تمثيل الطفل والبالغ وعلاقتهما ببعضهما، وعلى معالجته مواضيع حساسة مثل الحرب، والجنس، والطائفية، والطبقية. كان رده دائمًا أنه ينقل الواقع لا أكثر ولا أقل. لم يلتزم إدريس الواقعية لذاتها، بل لأن بعض المثل التي يروج لها أدب الأطفال لها دور سلطوي وقمعي واضح، نذكر منها صورة الطفل المؤدب دائمًا وصورة الأهل العالمين بكل شيء والذين لا يخطئون أبدًا. على المستوى الاجتماعي، هناك الصورة “المنقحة والمطهرة” للمجتمع اللبناني الموجودة في بعض الأدب والتي تتجاهل تاريخه المعروف بالعنف، والحروب، والطائفية، والطبقية.

في المقابل، إنّ الأطفال في قصص سماح إدريس يسيئون التصرف في بعض الأوقات، فأسامة، مِثل كثيرين إن لم نقل أغلب أقرانه في الواقع، يكذب ويغضب ويمزق صورة رسمتها أخته في تحت السرير بسبب غيرته منها ويرمي بموزة لا يريد أن يأكلها بسلة قمامة في الموزة ويحاول أن يبتز أمه لأنها لم تعطه ما يريد في أم جديدة، مع العلم أنّ أهل أسامة كانوا دائمًا يكشفون ألاعيبه وأكاذيبه أو كان هو يعيد التفكير فيما فعله. في المقابل، أهل أسامة كانوا هم أيضًا أشقياء أحيانًا، ففي قصة الكوسى تنجح أمه في جعله يأكل ثلاث قطع من الكوسى المحشية، الأكلة التي لا يحبها، عن طريق الخداع بينما يفقد أب أسامة أعصابه عندما يغضب من ابنه بعد ما مزق رسمة أخته في تحت السرير، ما يخالف الصورة النمطية للأهل المنضبطين دائمًا. استبدل إدريس العلاقة الأحادية بين الكبار والصغار التي نراها في الكثير من القصص، حيث الكبير لا يخطئ أبدًا ويقوم دائمًا بتوجيه وتصحيح تصرفات الصغير، بعلاقة حوارية لعوبة، حيث يمكن للصغار أن يبدوا رأيهم ويعبروا عن مشاعرهم، وحتى أن يساعدوا الكبار في بعض الأوقات مثل في حين قرر أبي. بخياراته هذه، كان إدريس يقدم صورة أكثر واقعية للطفولة وأكثر تقبلًا لتناقضاتها وتعقيداتها ويروج لعلاقات أسرية قد يعتبرها الكثير أسلم من تلك التي نراها في كتب أخرى.

في كتاباته لليافعين، تطرّق إدريس لكثير من الأمور المسكوت عنها في المجتمع اللبناني، فثلاث من رواياته تتطرق إلى الحرب. تدور أحداث روايتَي الملجأ والنصّاب خلال الحرب الأهلية اللبنانية وأحداث فلافل النازحين في أعقاب حرب إسرائيل على لبنان في تموز2006. في الروايتين الأوليتين، تقولب الحرب شكل الحياة اليومية لمازن (الشخصية الرئيسية) وأصدقائه بالحضور الدائم لاحتمالية الموت أو الأذى، وإن لم يمنعهم ذلك من خوض مغامراتهم وحتى الوقوع في الحب. في فلافل النازحين، يوثق إدريس الاعتداء الإسرائيلي وأثره الصادم في حياة بعض الشخصيات، بالإضافة إلى توثيق حملة المقاومة الشعبية التي قدمت الدعم للنازحين من جنوب لبنان هربًا من القصف.

يتناول إدريس مواضيع محظورة أخرى في هاتين الروايتين بالإضافة إلى موضوع الحرب، منها الجنس والطائفية والطبقية. فيما يتعلق بالجنس، يعبر إدريس في الملجأ عن انجذاب مازن (الشخصية الرئيسية والراوي) الواضح لصديقته ثريا وانتباهه إلى مفاتن جسدها ويتعامل مع هذه الشهوة بشكل حيادي. الجيد أنّ الرغبة ليست حكرًا على الذكور، إذ نشهد في النصّاب إعجاب ثريا بجسد وعضلات وليد، صديق مازن. في فلافل النازحين، يتطرق إدريس أيضًا إلى الطائفية والطبقية. كل من الوالدين، عدنان وجوسلين، من طائفة مختلفة وفي أحد المقاطع ينقل حديثًا يجري بين أم جوسلين وجارتها المعترضة على الزواج المختلط، يكشف من خلاله تجليات الطائفية في المجتمع اللبناني. وفي الرواية أيضًا، علاقة حب بين الكلب سعيدون والكلبة ميمي “المؤصلة” المملوكة من أسرة بورجوازية. يطير سعيدون من الفرح عندما تعترف له ميمي بحبها له غير مصدقٍ اهتمامها به على الرغم من كونه كلبًا عاديًّا، ومن ثم ينزعج عندما تقوم أسرتها بتزويجها بكلب من فصيلتها العريقة. يمكننا أن نستقرئ هنا تعليقًا على كيفية تحكم الانتماءات الطبقية بالعلاقات العاطفية وفرص الزواج في المجتمع اللبناني.
في حماسته والتزامه بنقل الواقع الاجتماعي في لبنان، كان أحيانًا يعكس، بغير وعي منه، واقعًا غير مقبول من دون إعطاء القارئ إشارة بأخذ المسافة النقدية المطلوبة من هذا الواقع، مثل استخدامه كلمة “كلبة” بكل تداعياتها الذكورية كشتيمة في كتابَي الكل مشغول وفلافل النازحين،وذلك بالرغم من نقده للذكورة بشكل صريح في الرواية.
اللغة
اللغة مكون أساسي من مكونات الفكاهة في أعمال إدريس، كما ساهمت في الطابع الواقعي لقصصه. كانت خيارات إدريس اللغوية أكثر ما أثار الجدل حول أعماله، خاصة بين المربين والمدرسين. ركزت الانتقادات بالتحديد على استخدامه لكلمات أو عبارات اعتبرت من المحكية اللبنانية بحتًا، أو كلمات دخلت اللغة المحكية من السريانية، أو التركية، أو الفارسية، أو الإنكليزية أو الفرنسية (أوكي، نو واي، باي). كما أشارت الباحثة سهام حرب، أنّ قصصه قد تضمنت أيضًا “تراكيب مألوفة يومية خضعت لعملية توليف لتقترب من الفصحى أو قل الفصيح”، مثل جملة “ليت الأرض تنشق وتبلعني” في الملجأ (حرب 2007، 206).

هناك جدل دائم وحاد حول استخدام العامية في أدب الأطفال واليافعين في المنطقة العربية، وخاصة في لبنان. ينقسم الكتّاب والعاملون في المجال بين المؤيد والرافض. في الحقيقة، ترفض الأغلبية استخدام العامية أو تطالَب بالحد منه، ما يفسر الاعتراض الشديد، وأحيانًا المبالغ فيه، على اللغة في قصص إدريس. كان إدريس يرفض احتقار العامية أو التعامل مع العامية والفصحى وكأنهما منفصلان تمامًا، بل كان دائمًا يشير بتقاطعهما الشاسع (من مقابلة أجريتها مع سماح إدريس في 30 آذار، 2017). كان مؤمنًا بسلاسة الفصحى وببلاغة العامية وبطواعية اللغة العربية عامة.
ينتقل إدريس بخفة وبشكل مدروس من العامية إلى الفصحى وداخل المنطقة الكبيرة حيث يلتقيان. كان يستخدم، مثلًا، كلمات فصيحة ومذكورة في المعاجم المعتمدة لكنها أيضًا مألوفة بالعامية. في الواقع، لم يكن هناك الكثير من المفردات العامية في نصوص إدريس لكن الكلمة أو العبارة العامية كانت تأتي في موقعها تمامًا، “معززة مكرمة”. ففي قصة الكوسى، عندما يكتشف أسامة خدعة أمه يقول لها “كمشتك!” تظهر الكلمة وحدها في الصفحة تحت الرسمة كما أنّ حجمها أكبر والخط الطباعي المستخدم مختلف عن باقي النص. في آخر القصة، عندما تعرض عليه أمه تناول البوظة، يقول لها: “أي بوظة؟ انفزرت من الكوسى!”. (الجملتان هنا مطبوعتان في الخط الطباعي والحجم نفسه، لكلمة كمشتك!”). في الحالتين، من الصعب تخيل وجود كلمات أكثر “.تعبيرًا ومناسبة عن “كمشتك” أو “انفزرت

في الكلام عن اللغة في كتابات إدريس، من المهم ألا نحصر اهتمامنا في مدى استخدامه للعامية من دون النظر إلى الجمالية الملفتة في لغته الفصيحة. خير مثال على ذلك، الجملتان الأُولَتان في روايته خلف الأبواب المقفلة:
“منذ صباح اليوم، السبت، قرّر ريّان الحلبي أن يكتب إلى ربى سعيد رسالة خاصة على الفيسبوك يبلغها فيها حبه بلا تردد أو تلعثم. كانت كلمة “بحبك” تطبق على عنقه ككماشة هائلة، لكن لم يرد لكرامته أن تُخدش أدنى خدش”.
أدب الأطفال والالتزام
لم يكن هدف إدريس في الكتابة للأطفال ولليافعين ترفيهيًّا فقط، بل كان صاحب مشروع حداثي متكامل. يروج من خلال أعماله لقيم تقدمية، وإنسانية، وديموقراطية، لكن بطريقته الخاصة البعيدة كل البعد عن وسائل التلقين التقليدية في أدب الأطفال.

كان مؤمنًا بأن الغرض من الأدب هو الوصول إلى الناس وإشراك القارئ فيما يقرأ كما كان يرى أنّ النزعة إلى فرض القيم عن طريق الوعظ الفوقي هي تلك النزعة نفسها لفرض لغة “صحيحة” وعلاقة سلطوية بين الكبار والصغار ومنع الكلام عن أي موضوع “يلوث” صورة المجتمع اللبناني الوردية (من مقابلة أجريتها مع سماح إدريس في 30 آذار، 2017). في المقابل، كان إدريس يصر على استخدام لغة قريبة من الناس والتطرق للمواضيع الحساسة والظواهر السلبية وتقديم علاقات أسرية واجتماعية تحترم آراء ورغبات جميع أعضائها، كل ذلك في قالب خفيف الدم.
تميزت رؤية إدريس الإنسانية باحترام والتعاطف مع الفئات المهمشة، ابتداءً من الأطفال. كان منحازًا للأطفال ونجح بشكل ملفت في تقديم وجهة نظر طفولية وشبابية مقنعة إلى درجة شعور القارئ أنهم شخصيات فعلية موجودة في الواقع. يمكننا فهم العلاقات الأسرية وعلاقات الجيرة في قصص إدريس من هذا المنظار، أي احترام رغبات الصغار وحقهم في اختبار الحياة. في طابتي الذكية، مثلًا، يشارك أبناء الحي سيما وأسرتها في البحث عن طابتها المفقودة ولا يشعرون أنهم يضيعون الوقت بعمل دون قيمتهم.

في قصص أخرى، كان هناك وجود لشخصيات من فئات مهمشة أخرى، مثل أبناء الطبقة العاملة (النصّاب، الشبّاك، أمّ جديدة) والعاملات الآسيويّات (قصتي) والنازحين خلال حرب تموز في فلافل النازحين. كنا قد تكلمنا عن براعة إدريس في إقامة التوازن بين الفكاهة والجدية في كثير من أعماله. نرى هذا بوضوح في قصته عالم يسع الجميع، التي تسرد محاولات أسرة ديما وسيما لاصطياد فأرة دخلت بيتهم وكيف تحبط الفأرة جهودهم في كل مرة، بموقف مضحك تلو الآخر. عندما تنجح الأسرة أخيرًا في حشر الفأرة في الزاوية، تشفق عليها سيما وتفكر: “عيناها تؤكدان لي أنّ العالم، خارج الغرفة، يسع الجميع”. فتطالب أباها، وهي باكية، بأن لا يقوم بقتل الفارة. إذا كان هذا العالم يسع مخلوق مكروه مثل الفارة، أليس لجميع فئات المجتمع الحق في الحياة أيضًا؟ هذه رسالة قوية وجريئة جدًا في ظرف طغيان الخطابات التي تقوم على إقصاء الآخر في أغلب المجتمعات حاليًّا.
لم يكن إدريس يتناول المواضيع الحساسة بشكل مجاني، بل نتيجة رغبته بالإضاءة عليها وفتح مجال النقاش حولها والدعوة لتغيير هذا الواقع. في فلافل النازحين، أراد إدريس أيضًا تسجيل موقف حول أهمية التكافل الوطني والمقاومة المدنية، خاصة في ظل عدوان خارجي إسرائيلي على البلد، رغم معرفته ب “حدود الوطنية اللبنانية المزعومة” (إدريس 2012، ص. 18)، في مجتمع يعاني الطائفية والطبقية والعنصرية. في الرواية نفسها، تطرق لجميع هذه المواضيع، بجرأة وبدقة قلما نراها في الأدب العربي أو اللبناني للأطفال واليافعين.
ختامًا، قدم إدريس نموذجًا للأدب الملتزم الذي يتسم بالخفة والرقة إلى جانب الجرأة في طرح المواضيع والحساسية في معالجتها، كل ذلك في قالب فني جميل وممتع. لهذه الأسباب جميعها، نفتقد سماح إدريس اليوم.
سوزان أبو غيدا
المراجع
إدريس، سماح. 2012. السياسة والمواطنة: تجربة شخصية في أدب الأطفال والناشئة. في قصتنا قصة: السياسة في أدب الأطفال. بيروت:تجمع الباحثات اللبنانيات..
البزري، هالة. 2011. صورة الطفل في أدب الأطفال: الرسوم في كتب الأطفال المنشورة في لبنان. دراسة تحليلية مقدمة إلى مؤسسة آنا ليند للحوار بين الثقافات.
حرب، سهام. 2007. نحو معايير جودة لأدب الأطفال في لبنان: مقاربة سيميولوجية ودراسة ميدانية. أطروحة دكتوراه في الآداب من جامعة القديس يوسف.
شافر، ماتيلد. 2021. عن أحوال كتب الأطفال: أربعون عامًا من الإبداع العربي في مصر وسوريا ولبنان. بيروت: منشورات صنوبر بيروت.