في العام ٢٠١٦، كنت إحدى المشاركات في مشروع بحثيّ حول كيفية تلقي طلاب في اسكتلندا للقصص المصورة العربية. صاحبة الفكرة كانت جولي ماك آدم، معيدة في كلية التربية في جامعة غلازغو ومشرفة على دراسة الدكتوراه التي كنت أعدها في ذلك الوقت. وكان التعاون في هذا المشروع مع الدكتورة لافينيا هيرسو، معيدة في كلية التربية نفسها والدكتورة صباح العيسوي، أكاديمية من السعودية تهتم بدراسات أدب الطفل وثقافته. الهدف الأساسي للمشروع كان تعريف الطلاب الأجانب بقصص مصورة مكتوبة بلغات غير الإنكليزية وصادرة خارج بريطانيا، وبالتالي تعزيز قيمة التسامح ومحاربة العنصرية والتمييز لديهم، بشكل خاص ضد العرب والمسلمين.
سأقوم، في هذه المقالة، بعرض بعض نتائج المشروع من تفاعلات الطلاب لهذه القصص، مع التركيز على كيفية تعاطيهم مع رموز ثقافية غير مألوفة لدى البعض وإن لم تكن غريبة بالنسبة إلى غيرهم من الطلاب، كما سنرى.
اختيار النصوص

الخطوة الأولى كانت اختيار النصوص. جاء تركيزنا على القصص المصورة لأسباب عديدة، منها إيماننا بدورها كمساحة مهمة لممارسة القراءة بشكل نقدي ولكونها متاحة للطلاب غير الناطقين باللغة العربية أكثر من الروايات. قد لا يخلو سوق كتب الأطفال البريطانية من بعض القصص المصورة التي تعتبر “متعددة الثقافات” بتناولها لحياة أفراد من ثقافات مختلفة أو من دول أخرى، لكننا قررنا عدم استخدامها. فأغلبها يركز على ظروف وأحداث عنيفة ومأساوية مثل الحروب والتهجير والفقر والمعاناة ويتعامل معها بأسلوب مباشر يفتقد إلى الفنية في كثير من الأحيان. أما ميزة القصص العربية الصادرة في الدول العربية والتي لا تستهدف جمهورًا غربيًّا هو أنّ الكثير منها يبتعد عن الصور النمطية للعرب. في قرارنا هذا، نكون قد ضربنا عصفورين بحجر واحد: اختيار قصص مناسبة للمشروع والترويج لأدب الأطفال العربي في المدارس البريطانية.
في تحديد العناوين المستخدمة في المشروع، المعيار الرئيسي كان الجودة من حيث النص والرسوم وكون القصص طريفة ومفتوحة على التأويلات. خياراتنا كانت محدودة بعض الشيء لصعوبة الوصول إلى قصص أطفال عربية في اسكتلندا، فالكتب العربية غير متواجدة في المكتبات المدرسية أو العامة أو في مكتبات بيع الكتب التجارية. هناك بعض العناوين المتوفرة في متاجر إلكترونية مثل أمازون أو في مكتبات في لندن، مثل فويلز أو مكتبة ألف، لكن الخيارات تبقى محدودة. لذا استخدمنا قصصًا مصورة كانت متوفرة لدينا بشكل شخصي، وهي:
العمة عوشة تأليف فاطمة شرف الدين ورسم حنان القاعي (إصدار كلمات)
تكشيرة تأليف نسيبة العزيبي ورسم حاتم علي (إصدار دار أشجار- دار العالم العربي سابقًا)
مثلث ودائرة تأليف أمل فرح ورسم حلمي التوني (إصدار دار الشروق)
النقطة السوداء تأليف ورسم وليد طاهر (إصدار دار الشروق)
الكنّاس تأليف ورسم ماتيلد شيفر (إصدار دار الشروق)
كان السؤال والتحدي الرئيسي هنا: هل ستكون القصص مفهومة من خلال الرسوم فقط ؟ على الرغم من اعتمادنا على حدسنا بشكل أساسي في انتقائنا للقصص، تبين لاحقًا أنّ خياراتنا كانت موفقة إلى حد بعيد.
تنفيذ البحث
جرى تنفيذ المشروع على مرحلتين ومع ثلاث مجموعات مختلفة من الطلاب. في المرحلة الأولى، قمنا بزيارات لمدرسة تقع في إحدى ضواحي مدينة غلازغو وعملنا مع طلاب الصف الرابع الابتدائي (الأعمار ٨-٩ سنوات). كانت هذه المجموعة أحادية اللغة، إذ إنّ الطلاب جميعًا من الاسكتلنديين ولا يتقن أحد منهم لغة غير الإنكليزية. أما في المرحلة الثانية، فقمنا بزيارة مدرسة تقع ضمن مدينة غلازغو وعملنا مع مجموعتين من الطلاب يتابعون دروسًا خاصة لتعلم الإنكليزية لغير الناطقين بها. تعددت الجنسيات وتعددت اللغات التي يتحدث بها الطلاب وكان من ضمنهم طلاب عرب من سوريا والسعودية والعراق.
بعض نتائج البحث

في بداية عملنا في المدرسة الأولى (المجموعة الأحادية اللغة)، عرضنا القصص على الأطفال وطلبنا منهم تخمين اللغة المستخدمة في هذه القصص. تعددت الإجابات بين اللغة “الصينية” أو “الهندية” أو “الباكستانية” كما قال بعضهم، أي جميع اللغات إلّا العربية! بعد ذلك، توزعنا على أربع مجموعات من الطلاب وقمنا بعرض إحدى القصص على كل مجموعة. في مناقشة القصة، اتّبعنا منهجية بسيطة حيث نبدأ بعرض الغلاف وسؤال الطلاب عمّا يرون ويلاحظون من تفاصيل الرسوم، وتعقيبًا على إجاباتهم، نطرح عليهم المزيد من الأسئلة. بعد ذلك، ننتقل إلى الصفحات الداخلية، صفحة بعد صفحة بشكل تسلسلي حتى الوصول إلى نهاية القصص. قمنا بالتأكيد مرارًا على الطلاب أن ليس هناك من إجابات صحيحة وأخرى خاطئة.

المفاجأة الكبيرة كانت أنّ الطلاب، بالرغم من انعدام معرفتهم باللغة العربية، تمكنوا من تكهن أبرز أحداث القصص بنجاح، من خلال الرسوم فقط! ذلك يعود، دون شك، لمهارة الرسامين وللدور المهم المسند للرسوم في سرد هذه القصص. ولم يكن هذا حال القصص البسيطة نسبيًّا فقط، مثل مثلث.. ودائرة، بل أيضًا القصص الأكثر تعقيدًا مثل تكشيرة. كان تعليقهم الوحيد على تكشيرة أنّ تحوّل أهل المدينة من التكشير إلى الابتسام أتى فجائيًّا بعض الشيء
بالنسبة إلى كتاب مثلث …ودائرة، لم يواجه الطلاب غير الناطقين بالعربية أي عائق في فهم أحداث القصة التي قدّم رسومها الفنان المصري الكبير حلمي التوني. من الجدير بالذكر أنّ نسخة جديدة من الكتاب صدرت قبل بضع سنوات برسوم كاملة البسيوني، والسؤال هنا: هل سيتم فهم القصة في حلتها الجديدة بالسلاسة ذاتها؟ لم تسنح لنا الفرصة بعد بالبحث عن إجابة لهذا السؤال.

لم يشكل اختلاف اتجاه الكتابة في اللغة العربية عن اللغة الإنكليزية عقبة كبيرة أمام الطلاب، رغم أنه كان مصدر فضول بالنسبة إليهم. بالتالي، يمكننا الاعتبار أننا بعرض هذه الكتب عليهم، لفتنا انتباههم إلى خصائص الكتابة واختلافها من لغة إلى أخرى.
يستند القارئ، في تعامله مع أي نص أدبي، إلى مخزونه المعرفي الخاص لفهم النصوص وتأويلها، وقد تكون هذه المعارف فردية، مصدرها تجاربه الحياتية الخاصة، أو تكون مشتركة مع أفراد المجموعة الثقافية أو الطبقية أو العمرية أو غيرها التي ينتمي إليها. والسؤال هنا: كيف يتعامل طلابٌ من خلفية ثقافية معينة مع نصوص لها هوية ثقافية مختلفة؟ لا بد من وجود ثغرات معرفية يعمل القارئ على ملئها.

عرضنا، على سبيل المثال، غلاف قصة العمة عوشة على المجموعة الأولى من الطلاب. لم يتمكن أحد منهم من التعرف إلى المسجد الموجود يمين الرسم. يبدو أنّ المسجد لم يكن ضمن مخزونهم المعرفي فكان أقرب شيء إليه المنارة. ومن الطريف أن يقوم أحدهم بالسؤال: لماذا هناك مذياع على هذه المنارة؟ عندما عرضنا الصورة نفسها على مجموعة الطلاب العرب والمسلمين في المدرسة الثانية، لم يواجهوا بالطبع أي صعوبة في التعرف إلى المسجد أو إلى حجاب العمة عوشة.
في المجموعة الأولى ذاتها (الأحادية اللغة)، قامت إحدى الباحثات بعرض رسوم من كتاب النقطة السوداء حيث تظهر نقطة سوداء غامضة في ملعب. الجميل في هذه القصة أنّ المؤلف والرسام وليد طاهر لم يقم بتحديد مصدر النقطة بل تركه مفتوحًا للتأويل. وعندما طلبت الباحثة من الطلاب تخمين هوية النقطة، لفتتني إحدى الإجابات إذ قالت طالبةٌ أنّ النقطة عبارة عن قطعة كبيرة من الفحم. فنظرًا لأهمية الدور الذي لعبه الفحم واستخراج الفحم في الاقتصاد البريطاني تاريخيًّا، هذه الإجابة ليست مفاجئة تمامًا.

هناك عدة أمثلة أخرى تدل على محاولة الطلاب الاسكتلنديين إيجاد روابط بين ما يعرفونه والمضمون غير المألوف المعروض أمامهم. فأحد الطلاب شبّه العمة عوشة بشخصية الپوكيمون پيكاتشو! بينما علّقت إحدى الطالبات على وجه الشبه بين بيوت الأطفال في النقطة السوداء والبيوت التي رأتها خلال رحلتها الصيفية في إحدى المدن المتوسطية. ووجد أحد زملائها وجه شبه بين التاء المربوطة في كلمتَي “عمة” و”عوشة” في غلاف الكتاب وحرف a في الإنكليزية.
النقاش مع الأطفال حول هذه الكتب لفت انتباهنا إلى وجود رموز أصبحت شبه عالمية أو مألوفة لدى شريحة واسعة من الناس. استنتج أحد الطلاب أنّ أحداث العمة العوشة تدور في دبي نظرًا لوجود برج خليفة الشهير في خلفية بعض الرسوم. كما إنّ ما ساعد مجموعة ثانية من الطلاب التي قامت بمناقشة قصة تكشيرة على فهم مجريات القصة هو وجود عدد كبير من إشارات السير ومعرفتهم بالأعراف التي تنظم معانيها. فشارة X تعني أنّ هذا الفعل أو الشيء ممنوع، على سبيل المثال.

من جهة أخرى، قد يكون هناك رموز ثقافية معينة لا يتعرف إليها ابن أو ابنة هذه الثقافة لأنها لا تدخل ضمن تجاربه الحياتية. ففي إحدى رسوم قصة الكناس، نرى عددًا من قصاصات الورق قام بجمعها الكنّاس. عندما طلبنا من الطلاب تحديد طبيعة هذه القصاصات، لم يتمكن أي من الطلاب العرب من التعرف إلى صورة عبد الحليم حافظ أو إلى مقطع من قصيدة قارئة الفنجان الشهيرة للشاعر نزار قباني. قد تكون هذه الرموز الثقافية مألوفة لدى الأجيال العربية الأكبر سنًّا والمولودة في السبعينيات والثمانينات من القرن الماضي، لكن يبدو أنّ الموضوع يختلف مع الجيل الحالي من اليافعين أو الشباب.

وفي المقابل، بالرغم من أنّ تقليد الحناء ليس جزء من الثقافة الغربية، تعرّف عدد من الطلاب الاسكتلنديين إلى نقش الحناء في إحدى صفحات العمة عوشة لسبب بسيط وهو أن سبق لهم أن درسوا عنه في السنة السابقة، وربما أيضًا لتشابه هذه الأوشام بتلك المتداولة اليوم في الغرب والعالم.
من أهداف هذا المشروع، تعزيز القرائية البصرية، وأقصد بذلك قدرة الفرد على النظر بدقة إلى الرسوم والصور لملاحظة تفاصيلها وفهم مضمونها ورموزها والتفاعل معها. خلال هذا المشروع، كان أغلب الطلاب مضطرين إلى التركيز على الرسوم بسبب عدم إتقانهم العربية. وهنا، أعجبني قرار مجموعة من الطلاب العرب بتغطية النص في قصة العمة العوشة كي يتفاعلوا مع الرسوم بشكل أساسي. رغم صغر سنهم، لفتنا في طلاب المجموعة الأولى تعاطيهم مع الرسوم بأريحية وقدرتهم على استنتاج الخط السردي بناءً عليها، ويبدو أنّ ذلك أتى نتيجة خبرتهم الطويلة في قراءة وتحليل ومناقشة القصص المصورة وفق ما أكدته لنا مدرّستهم. فعلى الرغم من المعتقد السائد لدى الكثير أنّ الأطفال يتمتعون بقدرة عالية على فهم الرسوم، هذا الكلام غير دقيق حيث إنّ هذه كفاءة لا تأتي بالفطرة لكنها، كما جميع الكفاءات، تحتاج إلى الدعم والتنمية. قد تكون بعض العناصر المرتبطة بالثقافة العربية مصدرًا للتساؤل من قبل الطلاب الأجانب، لكن التجربة بحد ذاتها كانت مثمرة وغنية بالنسبة إليهم.
وفي الختام، أحب أن أطرح السؤال التالي، عندما يطّلع الأطفال العرب على قصص مصورة أجنبية، مترجمة أو غير مترجمة، هل هناك عناصر مشابهة تستوقفهم؟ وفي سياق الطغيان والانتشار الثقافي للغرب، هل أصبحت العناصر والرموز الثقافية المرتبطة بها مألوفة للقراء العرب عندما يطالعون قصصًا مصورة غربية أو ليس تمامًا؟ ماذا لو انفتح أطفالنا على قصص من دول غير غربية؟ كيف ستكون ردة فعلهم؟ وماذا عن الكتب الصامتة، أي القصص المرسومة الخالية من نص مكتوب، وقد بدأ بعضها يتوفر في العالم العربي؟
كلها أسئلة مثيرة، نتركها لبحث آخر.
بقلم سوزان أبو غيدا