(نشرت هذه المقالة سنة 2012 بالفرنسية في مجلة Takam Tikou التابعة للمكتبة الوطنية الفرنسية ويعاد نشره هنا بإذنٍ منها، دون تحديث. ترجمة أورنيلا عنتر، تصحيح فاطمة شرف الدين وهالة البزري وسارة شاهين).
من الصعب أن نعتبر العالم العربيّ ناطقًا بلغة عربيّة موحّدة؛ فاختلاف اللهجات وتعدّد لغات الأقليّات ومجاورة بعض اللغات الأوروبية المنتشرة، في اثنين وعشرين بلدًا، أمرٌ لا يستهان به، في ظلّ لغةً شبه موحَّدةً وشبه موحِّدة. المسألة اللغويّة إذًا تطرح نفسها كإشكاليّة لا يمكن البحث بها بعيدًا عن قضايا تعدّد الثقافات والهويّات، أو اختلاف المسار التاريخيّ من بلد إلى آخر. تنعكس هذه المسائل في مجالات عدّة، منها مجال أدب الأطفال والناشئة.
اللغة العربيّة الفصحى كلغة مشتركة
تتحدّر العامّيّات من اللغة العربيّة وغيرها من اللغات الساميّة، وهي متأثّرة بشكلٍ متفاوت بلغات أخرى ليست بالضرورة محليّة. وهذه العامّيّة هي بمثابة لغةٍ أمّ لأهلها، بمعنى أنها اللغة التي بها تكلّم الأم أولادها.
تنعكس هذه الإشكاليّة اللغويّة بشكل ملفت على مجال النشر وصناعة الكتب، حيث للعربيّة الفصحى الحصّة الأساسيّة. فهي الشكل الوحيد للعربيّة المستخدم في الكتب المدرسيّة، إن كان ذلك لتدريس اللغة ذاتها أو لمختلف المواد الأخرى، من التاريخ إلى العلوم. هي إذًا لغة معروفة مألوفة لدى تلاميذ المدارس، يقرؤونها ويفهمونها – بطلاقة تتفاوت بحسب مستواياتهم -، لكنّهم يتعلّمونها مثلما يتعلّمون اللغات الأجنبيّة إلى حدٍّ ما، يكتشفونها بتركيبتها كما بمعجمها في إطارٍ مدرسيٍّ شبه صرف. اللغات المتداولة في البلدان العربيّة، كلغاتٍ أمّ، تتراوح من العامّيّة (المغربيّ والمصريّ والسوريّ والإماراتيّ…)، إلى لغات الأقلّيّات (الأمازيغيّة أو السريانيّة أو الأرمنيّة أو الكرديّة، …) وحتّى إلى الفرنسيّة وأحيانًا الإنكليزيّة. وعلى الرغم من أنّ العامّيّة غالبًا ما تكون قريبة من العربيّة، بمفرداتها مثلًا، إلّا أنّها تبقى لغة مستقلّة بذاتها متأثّرة تأثّرًا كبيرًا، على صعيد تركيباتها اللغويّة أو المعجميّة، باستعاراتٍ شتّى ترتبط بموقعها الجغرافيّ عبر التاريخ، من السريانيّة والقبطيّة والفارسيّة والتركيّة والإيطاليّة والفرنسيّة، وغيرها من لغاتٍ مرّت على المنطقة. لذا، تجد الشعوبُ العربيّة سهولةً أكبر في التعاطي مع جيرانها الأقرب إليها جغرافيًّا منه مع باقي العالم العربيّ. فالمغربيّ يتواصل بتلقائيّةٍ أكبر مع الجزائريّ ممّا هو الحال مع الفلسطينيّ، وهذا الأخير بدوره، يتلقّى الكلام السوريّ بشكل أوضح من العراقيّ، وهكذا.
ما ساعد في العقود الأخيرة على تخطّي مسألة الفوارق الجغرافيّة وعلى خلق مساحةٍ مشتركة بين مختلف الثقافات التي يتميّز بها كلٌّ من البلدان العربيّة، هو بالدرجة الأولى تعميم الكتب المدرسيّة المعدَّة باللغة العربيّة الفصحى والمستخدَمة في المدارس العربيّة من موريتانيا وصولًا إلى العراق. نصوص هذه الكتب موضوعة باللغة نفسها التي سيقرأ بها الصغار الكتب المصوّرة والقصص الشعبيّة وروايات الناشئة. لكن بالرغم من سني المطالعة والكتابة باللغة العربيّة الفصحى، يبقى الملفت في الموضوع أنّه من النادر جدًّا، لا بل من الاستثنائيّ أن نجد تلميذًا عربيًّا معتادًا على التعبير بحرّيّة بالفصحى. يصعب على طفلٍ عربيٍّ مثلًا أن يخبر بالفصحى، خارج الإطار المدرسيّ، عن حدثٍ صار معه، أو أن يروي حلمًا. قد تسهل عليه كتابة هذا الحلم أكثر من الكلام عنه بغير لغته الأمّ. فالفصحى ليست اللغة التي يعبّر بها الطفل بشكل طبيعيّ، بل يبقى معها في موضع المتلقّي وحسب. تزداد الصعوبة عندما يتعلّق الأمر بالمغتربين العرب الّذين يودّون الحفاظ على رابط عائليّ عبر اللغة. فيجد الصغار أنفسهم أمام ضرورة تعلّم لغتين “أجنبيّتين”، بعد أن أصبحت لغة بلد الاستقبال لغتهم الأمّ: أوّلًا العامّيّة، وهي أساسيّة للتداول مع العائلة والأصدقاء، والفصحى، وهي الوسيلة الأساسيّة المتاحة للعربيّة المكتوبة، بالإضافة إلى كونها لغة كلّ خطابٍ شفهيّ محضّر مسبقًا كالنشرة الإخباريّة أو الخطابات السياسيّة.
لغة “محافِظة” بشدّة…
الفصحى المعتمدة في أدب الأطفال لغة محافظة جدًّا، بمعنى أنها حذرة جدًّا في استخدام مفرداتٍ قريبة من العامّيّة أو أخرى مستعارة من لغة أجنبيّة. فكلمة واحدة بالمحكيّة كافية كي يفقد الكتاب جمهوره خارج البلاد. يكفي أيضًا أن يبتعد النصّ، ولو قليلًا، عن اللغة العربيّة الفصحى كما “يُفترض أن تكون”، حتّى يلقى المؤلف وكتابه رفضًا من قبل المؤسّسات التعليميّة، إدارةً ومعلّمين، ومن قبل الأهالي. فيعتبر الأساتذة أنّ استخدام كلمة من العامّيّة في كتابٍ مصوّر للأطفال أمر مبتذل وغير سليم، أو حتّى خطأ، وإن وردت الكلمة هذه في القواميس العربيّة. وذلك لسببٍ واحدٍ بسيط، وهو أنّ تداول هذه الكلمة شفهيًّا يتمّ بشكل يوميّ، ممّا يفقدها قيمتها الأدبيّة. في حين أنّ مرادفٌ لها، أوفر حظًّا منها، يرد حصرًا في النصوص الأدبيّة، فيكون بذلك “أرقى”. من هنا، كانت محدوديّة المفردات التي يجوز استخدامها في كتب الناشئة.
من ناحيةٍ أخرى، بات القارئ يلاحظ أنّ بعض المنشورات الموجّهة للصغار راحت تستبدل خصوصيّات منشئها بأُخرى معمّمة بين البلدان العربيّة، مضيفةً بذلك إلى لائحة الشروط المفروضة على الكاتب – إن لم يكن هو من يفرضها – ليزيل أيّ لونٍ مميّزٍ من كتاباته. فقد قام مؤخّرًا بعض الناشرين، خاصّة اللبنانيّون منهم، باستبدال الأرقام “الهنديّة” المستخدمة في الشرق الأوسط بالأرقام “العربيّة” المستخدمة في بلاد المغرب، في محاولةٍ لزيادة نسب مبيعاتهم هناك. وفي خطوةٍ مماثلة، يتمّ أحيانًا استبدال أسماء أشهر السنة المشرقيّة بالأسماء المألوفة في البلدان العربيّة عامّةً، وهي لفظٌ محلّيّ للأسماء الغربيّة. فنرى على سبيل المثال، في كتابٍ يحكي قصّة حلوى بيروتيّة تؤكل في الشهر الرابع من السنة عنوانه “حلوة يا مفتّقة” (صادر عن دار أصالة، لبنان)، أنّ اسم الشهر يشار إليه كالتالي: “نيسان-أبريل”، تأكيدًا على أنّ الكتاب موجّه إلى العالم العربيّ أكثر ممّا هو موجّه إلى لبنان وحسب. وفي لبنان أيضًا، يرفض “المحافظون” لغة الكاتبة والناشرة نادين توما، معتبرينها شاعريّة جدًّا وخياليّة، في حين أنّ الكاتبة نفسها تودّ، من خلال إصداراتها، “فتح باب النقاش حول خيارات اللغة العربيّة فيما يخصّ الكتب الموجّهة للأطفال”. ردّة الفعل نفسها قابلت اختيار سماح إدريس، كاتبٌ وناشرٌ متمّرد على تحجّر اللغة العربيّة، لمفرداتٍ مألوفة جدًّا عند الصغار لكنّها مستخدمة في العامّيّة أو أصلها أجنبيّ. ذلك بالرغم من أنّ الكاتب، وانطلاقًا من إدراكه لجمهوره وقرّائه، قد اختار أن ينشر في كلّ عناوين سلسلته هذه، رسالةً موجّهة للكبار يشرح فيها لهم أصل الكلمات الّتي من الممكن أن تفاجئهم أو حتّى أن يصدمهم استعمالها، وذلك من خلال تعريفٍ لها بحسب القاموس، مع شرحٍ لمكانتها في اللغة العربيّة.
في مسائل انتشار الكتاب العربيّ
إنّ الشكل المكتوب للّغة العربيّة الفصحى يعرف بعض الفروقات الصغيرة المرتبطة بالتهجئة، بين مختلف البلدان العربيّة. على سبيل المثال، بعض الكلمات والقواعد اللغويّة تتغيّر من بلد إلى آخر: قاعدة الهمزة (ء)، وهي متحوّلة في المنطقة السوريّة-اللبنانيّة وثابتة في مصر (مثلًا مسؤول مقابل مسئول). الأمر مشابه لجهة وضع النقاط على بعض الأحرف كالياء (ي) أو التاء المربوطة (ة) حيث، في التقليد السوريّ، يكون أساسيًّا لتجنّب اللغط بين كلمتين قريبتين، وهو غائبٌ في مصر حيث المفترض أن تُفهم الكلمات بحسب ورودها في النصّ (سامي مقابل سامى، فتحة مقابل فتحه)؛ كما أنّ اختيار مفردة ما من بين مرادفات عديدة للمعنى الواحد في اللغة العربيّة قد يختلف من بلدٍ إلى آخر.
إنّما وعلى الرغم من هذه الفروقات الطفيفة، تبقى اللغة العربيّة الفصحى جامعة لكافّة بلدان العالم العربيّ، الأمر الذي يتيح مثلًا لسوريٍّ أن يقرأ لكاتبٍ مغربيٍّ والعكس بالعكس. وتبقى هذه الفصحى الموحّدة لغة نشر أدب الأطفال بامتياز. فنلاحظ، عندما يُرفض كتابٌ ما في مكانٍ ما، أو عندما لا يلقى في بلدٍ ما النجاح نفسه الذي عرفه في مكان صدوره، أنّ السبب يكون في الغالب متّصلًا بالتباين الثقافيّ لا اللغويّ. تجربة دار الآداب اللبنانيّة تجسّد هذه المشكلة: فقد كان مبيع كتبها المخصّصة للأطفال ضعيف في بلاد المغرب، وكان مردُّ ذلك تحفّظات ناتجة عن أسباب عدّة منها التباين الثقافيّ الكبير (قيل مثلًا، لو أنّ القصّة المُعَنونة “قصّة الكوسى” جاءت تحت عنوان “قصّة الطاجن” لكانت لاقت في بلاد المغرب النجاح الكبير نفسه الذي حظيت به في لبنان). ومع ذلك قامت تونس بعد ذلك بشراء كمّيّة من منشورات دار الآداب لمكتباتها العامّة… من المؤكّد أنّ انتشار الأغنيات والمسلسلات المحلّيّة على القنوات الفضائيّة أثّر على تذوّق الشعوب العربيّة لإنتاجات بعضها البعض.
ثم إنّ ضعف انتشار ومبيع بعض الكتب يعود بشكلٍ كبير إلى أسباب اقتصاديّة، فدُور النشر اللبنانيّة على سبيل المثال تبيع كتبها بسعر مرتفع نسبة للدور المصريّة، ممّا يصعّب توزيع كتبها خارج أراضيها. فحين تمكّن الناشرون اللبنانيّون للمرّة الأولى عام 2010 من رفع نسب مبيعاتهم في معرض الكتاب الدوليّ في الجزائر، كان مردّ ذلك غياب مصر عن المعرض لأسبابٍ تتعلّق بعراكٍ بين مشجّعي لعبة كرة القدم بين البلدين. التجربة هذه لم تكرّر في العام التالي، على الرغم من أنّ لبنان حلّ ضيف شرف على المعرض عام 2011، فدور النشر المصريّة كانت قد عادت للمشاركة في المعرض السنويّ.
العامّيّة، لغة للنشر؟
النشر بالعامّيّة خيارٌ لا يقوم به إلّا عددٌ قليل من الكتّاب والناشرين في العالم العربيّ. يعود ذلك في الأصل للأسباب المذكورة أعلاه، من السوق المشترك إلى اختلاف اللهجات المحلّيّة. سبب آخر هو نظرة الاستخفاف والاحتقار الموجّهة للعاميّة على أنّها الشكل المشوَّه للعربيّة الفصحى، وهو شكل غير المؤهّل للظهور في الكتب أو لأن يتعلّمه الصغار. “نورا وقصّتها”، على سبيل المثال، كتابٌ مصوّرٌ جميل يطرح مسألة الانتماء إلى المجتمع، صادرٌ عن “دار أصالة” في بيروت. كتبته فاطمة شرف الدين أوّلًا بالعامّيّة اللبنانيّة، قبل أن تضطرّ إلى “ترجمته” إلى العربيّة الفصحى نزولًا عند رغبة الناشرة، خوفًا من أن تمتنع المدارس وباقي البلدان العربيّة من شرائه.
والمفارقة هنا، أنّ دار الفتى العربيّ – وهي دار فلسطينيّة متخصّصة بأدب الأطفال كان مقرّها بيروت – كانت تنشر ابتداءً من سبعينيّات القرن الماضي قصصًا ورسومات لكتّاب من مختلف البلدان العربيّة ولا تتردّد بالمخاطرة. فعلى الرغم من أنها كانت تنشر في الأغلب باللغة العربيّة الفصحى، إلّا أنّها نشرت أيضًا بالعامّيّة. أصدرت مثلًا سلسلةً مصوّرة للكاتب والرسّام المصريّ الكبير حجازي، بعنوان “تنابلة الصبيان”. تمّ توزيع هذه القصّة المكتوبة بالعامّيّة المصريّة في مصر طبعًا، ولكن أيضًا في بلاد أخرى من العالم العربيّ، خاصّة بين الفلسطينيّين واللبنانيّين والسوريّين، شأنها شأن باقي منشورات دار الفتى، مع العلم أنّ وسائل الإعلام والأقمار الصناعيّة لم تكن آنذاك قد عمّمت المصريّة كما هي الحال الآن. المعلومات قليلة اليوم عن ردّة فعل القرّاء في الفترة تلك حيال هذه الكتب، إلّا أنّه يبقى من الواضح أنّ محتوى النصّ كان يفوق اللغة المستخدمة أهمّيّةً في نظر الناشر: كان من الضروريّ أن يُنشر هذا الكتاب الذي يحكي قصّة شعبٍ مقموعٍ ومتمرّدٍ على بعض الملوك والزعماء الكسولين، بصرف النظر عن أيّ اعتباراتٍ تجاريّة.
استخدام اللغة العربيّة العامّيّة في كتب الأطفال غالبًا ما يكون أكثر بديهيّةً بالنسبة للناشرين المصريّين مما هو للّبنانيّين مثلًا، وذلك لأسبابٍ اقتصاديّة أوّلًا: فالواقع أنّه من الأسهل بيع 3000 نسخة من كتاب في مصر، حيث عدد السكّان يصل إلى 80 مليون، مقارنة مع لبنان وسكّانه الأربع مليون. كما أنّ مسألة الأدب بالعامّيّة لطالما طرحت في لبنان، وعلى عكس الحال في مصر، جدالًا سياسيًّا وإيديولوجيًّا. جدالٌ حادٌّ وشائك يقسّم البلاد بين “وطنيّين” و”عروبيّين”. لذا، لم تخض صناعة كتب الأطفال في لبنان تجاربها بالنشر بالعامّيّة إلّا مؤخّرًا جدًّا. ففي سنة 2008، قامت “دار قنبز” بنشر قصّة باللبنانيّة عنوانها “سبعة و٧”، وهي عبارة عن كتابٍ مصوّر كبير وجميل، غير أنّ سعره الذي يفوق بأربع مرّاتٍ سعر كتابٍ عاديٍّ عربيّ للأطفال يجعل الوصول إليه متعذّرًا على البعض. كانت الدار نفسها قد نشرت عام 2007 كتاب “شو لون البحر”، بالعامّيّة أيضًا. إنّما وبفضل منحةٍ، تمّ توزيع الكتاب مجّانًا على الأطفال. في الحالتين وبغضّ النظر عن شكلهما وسعرهما، قوبل الكتبان بحماسةٍ وإعجاب من دون أن تشكّل اللغة موضوع نقاش حادٍّ وذلك، على الأرجح، لأنّ الكاتبة لم تمزج بين الفصحى والعامّيّة، واتّخذت موقعًا واضحًا لنفسها على أنّ كتبها للمتعة وليست للتدريس. الجدير بالذكر هنا أنّ ناشرة الكتابَين هي أيضًا كاتبتهما.
اللغات الأقلّيّة في مجالات النشر
أمّا في ما يخصّ اللغات الأقلّيّة، فالمشكلة أحيانًا سياسيّة أكثر ممّا هي لغويّة. ففي بعض البلدان، نجد أنّ الجهات الرسميّة هي الّتي تجعل من النشر في لغةِ أقليّةٍ عمليّةً صعبةً، وليس السوق أو المبيعات. في المغرب مثلًا، حيث العربيّة هي اللغة الرسميّة للبلاد، لم يتمّ الاعتراف بالأمازيغيّة كلغةٍ رسميّة ثانية إلّا في العام 2011، في حين أنّها اللغة الأمّ لأربعين في المئة من المغربيّين. غير أنّ الاعتراف بهذه اللغة من قبل الشعب المغربيّ سبق اعتراف دولتهم لها بكثير، إذ غالبًا ما لجأوا إلى الترجمة بالفرنسيّة لنشر القصص والقصائد التقليديّة. اليوم، وبفضل أبجديّة مبتكَرة، تيفيناغ، نُشرت كتبٌ للأطفال بالأمازيغيّة، وهي في غالبيّتها مصحوبة بالفرنسيّة أو العربيّة. في هذا السياق، تنشر الدار المغربيّة “يوماد”، منذ أكثر من عقدين، كتبًا للأطفال واليافعين بالفرنسيّة والعربيّة، ولكن أيضًا بالأمازيغيّة. كذلك الأمر، تُنشر بعض الكتب باللهجة القبائليّة “تاقبايليت” في الجزائر، إلّا أنّها في أكثر الأوقات تُكتَب بأحرف لاتينيّة. فبالرغم من أنّ الأمازيغيّة، بتفرّعاتها، متداولة في بلاد عديدة، إلّا أنّ لا مكانة مخصّصة لها إلى اليوم سوى في الجزائر والمغرب. وبالرغم من أنّ الأمازيغيّة مستخدمة في ليبيا مثلًا، واللهجة السيوية في مصر، ولغاتٌ أقلّيّة أخرى في أماكن مختلفة من أفريقيا الناطقة بالعربيّة، كالفولانيّ في موريتانيا، إلى ذلك، إلّا أنّ هذه البلاد لا تنشر كتبًا للأطفال بلغاتها أو لهجاتها العامّيّة، كون اللغة العربيّة نفسها لا تزال فقيرة بأدب الأطفال في بعض هذه المناطق.
أمّا في الخليج، من السعوديّة إلى الكويت مرورًا بالإمارات العربيّة المتّحدة، العربيّة هي اللغة الأمّ وهي اللغة المستخدمة لنشر أدب الأطفال. عام 2007، افتُتحت في الإمارات دار “كلمات” المتخصّصة بأدب الأطفال، وهي من الدور القليلة المتخصصة في هذا النوع من الأدب في الخليج. انطلاقًا من التجربة اللبنانيّة، قامت الدار بتوظيف مديرة لبنانيّة، وكتّاب ورسّامين معظمهم لبنانيّين، وصارت تنشر باللغة العربيّة الفصحى نصوصًا تشبه بطبيعة الحال المنشورات اللبنانيّة. وعندما أصبحت الدار تُعرف بقائمة كتبٍ عالية الجودة، بدأت بالالتفات إلى الصناعة المحلّيّة، فنشرت نصوصًا كتبها مؤلّفون خليجيّون يتوجّهون بها إلى أطفال بلادهم: أغانٍ للأطفال بنكهة إماراتيّة، قصص عن مناديل موجّهة لأطفال الخليج، كلّها بالفصحى إنمّا غنيّة بمفردات مستقاة من الفرادة اللغويّة للمنطقة، والتي لم يكن بالإمكان نشرها في أولى مطبوعات الدار. في هذا السياق نُشر “غاية والحُنيش”، كتاب مصوّر سيتمّ توزيعه في معارض الكتب في العديد من الدول العربيّة، وسيحظى باهتمام كبير نظرًا لعنوانه، حيث “غاية” اسم فتاة إماراتيّة، وحُنيش مرادف متداول في الإمارات للثعبان أو الحيّة. وعلى الرغم من أنّ الإقبال على هذه الكتب لن يكون كبيرًا في باقي البلدان العربيّة لأسباب ثقافيّة، إلّا أنّها تمثّل تجربة فريدة من نوعها لبلاد الخليج العربيّ الّتي كان عليها أن تتّكل على الإصدارات المصريّة واللبنانيّة من أجل قراءات قيّمة.
من النادر أن تُنشر محلّيًّا، في بلاد الخليج العربيّ، كتب بلغات أجنبيّة، على الرغم من أنّ الإنكليزيّة متداولة في الإمارات أكثر من العربيّة ذاتها، وعلى الرغم من وجود مجموعات من المغتربين الآتين من أوروبّا وأميركا وآسيا. لذا، فالمدخل الوحيد للأطفال غير الناطقين بالعربيّة إلى الأدب هو الكتب المستوردة من الخارج.
عادةُ النشر لحضارات ولغات مختلفة حاضرةٌ بشكل خاصّ في لبنان، مع لغتين أقلّيّتين لهما دُور نشرٍ تهتمّ بكتب الأطفال، هما السريانيّة والأرمنيّة. تُنشر بالسريانيّة ترجمات من التراث العالميّ لروايات لليافعين وقصص مصوّرة للصغار، والغرض الأوّل من النشر بالسريانيّة هو المحافظة على هذه اللغة المعرّضة لخطر الزوال إذا لم يستمرّ أهلها باستخدامها. حالة اللغة الأرمنيّة مختلف، لأنّ أدب الأطفال الأرمنيّ الذي يصدر في لبنان يتوجّه إلى أطفال يتداولون هذه اللغة في العائلة كلغة أمّ، وهي غالبًا ما تُدرّس في المدرسة كلغة أمّ، إضافة إلى العربيّة والفرنسيّة أو الإنكليزيّة. إنّ النشر بالأرمنيّة يتلقّى في معظم الأحيان منحًا تتيح للناشرين أن يبيعوا كتبهم بسعر زهيد، من أجل الحرص على نشر اللغة واستمرارها، وذلك انطلاقًا من شعور المجتمع الأرمنيّ في لبنان بالمسؤوليّة تجاه حماية اللغة الأرمنيّة الغربيّة، المختلفة عن الأرمنيّة الشرقيّة المستخدمة في أرمينيا. هناك إذًا أعمال حديثة تصدر بالأرمنيّة، بالإضافة إلى الترجمات. غير أنّ هذه المنشورات، أرمنيّةً أو سريانيّة، لا تعرف توزيعًا كبيرًا، فهي متوفّرة عادةً لدى ناشرين ومكتبات تعود للسريان أو للأرمن في لبنان، على عكس الأدب العربيّ أو الفرنسيّ أو الإنكليزيّ، المنتشرين بشكل أوسع في كافّة المكتبات.
غالبًا ما تكون اللغة الوسيلة الأقوى لتوحيد الشعوب، لذا نرى أن استخدام لغة أقلّيّة تكون أحيانًا مصدر احتكاكٍ مع السلطة. يحدث ذلك في بلاد المغرب كما أشرنا، ولكن أيضًا في عدّة بلاد عربيّة أُخرى. فالأكراد يجدون صعوبة في نشر كتب بلغتهم في البلدان العربيّة. ولأنّ الأقباط أيضًا يواجهون تحدّياتٍ عند استخدام لغتهم في مصر، فهم يكتفون بنشر كتب لتعليم اللغة، أو معاجم أو كتب ليتورجيا، دون أن يغامروا في عالم الآداب.
المنشورات باللغات الأجنبيّة
أمّا النشر باللغات الأجنبيّة، فهو أكثر حضورًا في تونس والجزائر والمغرب ولبنان منه في سائر البلاد العربيّة. وأكثر ما يُنشر في هذه البلاد الكتب الفرنسيّة التي تروي تاريخ البلد، أو القصص والأساطير، أو حتّى مشاكل معيّنة كمسألة الهجرة والهويّة، موجّهة بشكل خاصّ للأطفال الفرنكوفونيّين في المغرب والجزائر. فأولى المنشورات المغربيّة حول التراث الأمازيغيّ، على سبيل المثال، صدرت باللغة الفرنسيّة. كما أنّ بعض دور النشر، مثل دار سمير في لبنان، تهتمّ بإصدار كتب للناشئة بالفرنسيّة حيث جمهورها مضمون في المدارس، وإن كان مضمونها غير متعلّق مباشرة بالمنهج. كذلك بعض الكتّاب، كاللبنانيّة جمانة مدلج، يفضّلون اللغة الفرنسيّة أو الإنكليزيّة لمنشوارتهم، على أن تُترجَم لاحقًا للعربيّة.
خاتمة
النقاش حول حداثة اللغة العربيّة يبدو وشيكًا وإن طال انتظاره، ومع ذلك فالمبدأ القائم على مقاومة أيّ تغيير ما زال الأقوى، مدعّم بالإخلاص للغة مقدّسة، أبديّة وموَحِّدة. قليلة هي الجهود التي تُبذل من أجل خلق روابط حقيقيّة بين اللغة العربيّة والعرب. أضف إلى ذلك أنّ هذه اللغة، الّتي هي بنظر الكثيرين تقليديًّا جميلة جدًّا وغنيّة جدًّا، لا تتناسب مع نماذج العصر، وبالتالي ينفر منها الشباب.
كذلك الانفتاح على لغة الآخر، على اللهجات العامّيّة أو على لغة الأقلّيّات، يطرح مسألة الهويّة كإشكاليّة أساسيّة.
أدب الناشئة في العالم العربيّ مجال لا يزال يافعًا، يَصعب التكهّن بمستقبله. لكنّه من الممكن التصوّر أنّ انفتاح البلدان العربيّة على بعضها البعض من خلال الأقمار الصناعيّة والإنترنت سوف يتيح تدوالًا ثقافيًّا أفضل وحرّيّة تعبيرٍ أكبر.
بقلم هالة البزري